ابو حيدر وهو راقد في المستشفى

ابو حيدر وهو راقد في المستشفى

 

تدوينات عراقية – العراق/حيدر انذار

بعد رفقة طالت اكثر من خمسين عاما يرديه (رفيقه) كما يطلق عليه صريع الفراش بذبحة قلبية كادت اد تودي بحياته وينقل على اثرها الى المستشفى ، الحاج ابو حيدر ذو الاثني والسبعين عاما من مدينة الديوانية، قضى معظم حياته في الخدمة العسكرية وأحيل الى التقاعد بعد ان انهكته واخذت من جسده مأخذا، يدخن السكائر منذ صباه حتى بات يطلق عليها بـ( رفيق العمر ) لكن ليس كل الرفاق أفوفياء فقد غدر به هذا الرفيق واخواته النيكوتين والقطران (مكونات السجارة) وزجه في غياهب المرض وعلى مقربة من الموت.

رحلة المرض

ابو حيدر حالفه الحظ  في الحصول على سرير داخل صالة برلمان القلوب ( وحدة العناية المركزة للقلب) كما يطلقون عليها مرضى مستشفى الديوانية التعليمي (180 كم جنوب بغداد) التي تتسع لأربع عشر سرير فقط، فقبل دخوله في يوم الثلاثاء أذآر/ مارس من عام 2015 بتمام الساعة الثالثة فجرا، كان اثني عشر مريض راقد في العناية المركزة وسريرا واحد فقط هو الشاغر والاخر غير صالح للعمل، اجريت له الفحوصات واوصلت له الاجهزة لإنعاشه واعطيت له العلاجات المناسبة لكنه لم يتحسن بل تدهورت صحته واصيب بفقدان للوعي.

فجأة في ظهيرة اليوم الثاني أشار جهاز قياس نبضات القلب الى (154) ضربة في الدقيقة الواحدة بعد ان كان 35 ضربة, فرجع وعي ابو حيدر ونهض وثارت ثائرته عندما رأى كل تلك الاجهزة موصولة الى جسده فجأة فراح يزيلها عن جسده وقرر الخروج من وحدة العناية المركزة وصرخ بأعلى صوته: ماذا فعلتم بي اريد ان اخرج من هذا المكان.

لم يستطع احد من الممرضين ان يقنعه او يهدئه فنادوا على المرافقين معه وكان ابنه الاصغر وابن اخيه فاتوا ليقنعوه بالجلوس في محله وراحوا يشرحون له الحالة ولكنه لم يقتنع منهم ولم يأبه بهم ,فنادوا ابنه الاكبر وكان يعمل صحافي فأتى ليقنع اباه بالجلوس فراح يساله عن شمال العراق وخدمته العسكرية فيه واين قضاها وعن الجبال والاماكن التي خدم فيها والتي كان يعرف ابنه انه  يحبها بشغف ويعشقها حتى الجنون ,فهدء ابو حيدر وراح يشرح لابنه عن تلك الاماكن التي يحبها ويقول ” كنت في سنة 1963 من القرن المنصرم في اربيل وخدمت فيها اكثر من سنتين وكانت في قمة الروعة والجمال”،لم تذهب صورة الطبيعة الخلابة لشمال العراق من ذهن ابو حيدر حتى وراح يتذكر تلك الايام الجميلة في حياته.

ولكن بعد برهة من الزمن رجع الحاج الى انهياره النفسي وثار مرة اخرى ودفع ابن اخيه بقوة والذي  يزن(135كم ) طوله (180سم)، الا ان ابنه الصحفي تدارك الوضع ايضا وراح يسئله هذه المرة عن سبب نقله من اربيل في اقصى الشمال العراقي الى ميسان في اقصى الجنوب دفعة واحدة ؟ فأجابه: بني لم يكونوا يحبونني لأني لم أتملق أو أتقرب منهم… وكان يقصد المسؤولين وضباط الشرطة وراح يشرح قصصه المريرة وتجاربه القاسية معهم.

الحاجة طلبة ” هل نحن بالكورنيش؟ “

هناك طلب ابو حيدر من ابنه ان يجلب له كرسي المعاقين المتحرك ليذهب الى الحمام ,وبعد فترة قصيرة  قال : أريد أن استنشق الهواء الاوكسجين هنا قليل اجلبوا لي العربة لكي اتجول في اروقة المستشفى ,وخرج الحاج ليستنشق الهواء وجلس على شرفة احد الردهات وكانت خالية من المرضى ليتمتع بالنظر الى حديقة المشفى ويسرد بعض الحكايات والبطولات التي قام بها في الخدمة العسكرية وسلك الشرطة معا.

هناك سمع صوت صراخ من داخل قبة (برلمان القلوب) تبين انه لاحد أعضائه الحاجة طلبة ام محمد وهي تصرخ على ابنتها : ماذا يعني لا توجد عربة اريد اذهب الى الحمام فقالت لها توجد عربة واحدة في الرده واخذها الحاج ابو حيدر الذي سريره مقابل لسريرك يتمشى في اروقة المستشفى انتظري حتى يأتي فصرخت الحاجة طلبة بلهجة عامية (شني يمه احنة بالكورنيش يتمشه الحجي واني…؟) اذهبي وقولي له ان يأتي اريد ان اذهب الى الحمام فانا مستعجلة، فسمع أحد مرافقي الحاج ابو حيدر وراح يخبره بحاجة احد المرضى  الى العربة، فرجع الى قبة البرلمان نادما.

الله أكبر… فقط 14 سرير في الانعاش؟

“الله أكبر ..صحبتها بتنهيدة …مستشفى بأكملها لا يوجد فيها الا 14 سرير فقط ؟”، هذا كان رد ابنت ام محمد ذو الثمانين عاما، والتي اصيبت هي الاخرى بنوبة قلبية الا انها لم يحالفها الحظ بالحصول على سرير داخل برلمان القلوب (ردهة الانعاش)، فراح يطردها مسؤول الردهة ويقول لها :لا يوجد مكان لك اذهبي وتكلمي مع المسؤولين انا لا علاقة لي بالعدد القليل للأسرة ولكن اذهبي الى الطوارئ ستجدين هناك ردهة  مؤقت ادخلوا فيها الى حين ان يفرغ أحد الاسرة، فذهبت وهي غاضبة وتتمتم (الله لا ينطيكم).

صدعتم رؤسنا بالحديث عن السياسة ؟

المرافقون للمرضى لا يعرفون كيف يقضون وقتهم امام باب وحدة العناية المركزة وهم ينتظرون مرضاهم عسى ان يتحسنوا، فجرهم الحديث الى الحاجة (ام محمد) التي لم تحصل على مكان داخل ردهة الانعاش بسبب قلة الاسرة، فواحد يرمي السبب في مدير المستشفى واخر يقول مدير صحة الديوانية يتحمل هذا النقص، يرمي اخرون باللوم الكامل على الحكومة الركزية، ولكن في الاخير رسا الامر على السياسيين فاجمع الكل على ان السياسيين الفاسدين هم سبب ما يعانيه الشعب العراقي من النقص الحاصل في جميع قطاعات الدولة، فواحد يقول بلهجته البسيطة  :شكد باكو فلوس ما يعرفون يبنون مستشفيات؟ (كم سرقوا من الأموال) واخر : بنو فلل بالدول الاوربية والعربية واشتروا عقارات كبيرة ولكنهم لم يبنوا لنا مستشفى واحد حديث، وهكذا استمر الحديث الى حين صرخ احد المرضى: افتحوا الانور لا اريد ان انام في الظلام لقد اختنقت ، الا ان باقي اعضاء البرلمان قد خالفوه الراي فقالوا له نريد ان ننام ولا نستطيع النوم مع وجود الانور ، فقال” هذا اتفاق سياسي ضدي ووضع الوسادة على راسه ونام ، فرجع المرافقون الى اكمال حديثهم عن السياسية فقال لهم رجل مسن (ياعمي حتى اهنا تحجون بالسياسة مو انوكلت روسنه منه) تصدعت رؤوسنا من الحديث بالسياسة، فقال له احدهم :يا حاج السياسة اصبحت حديث الساعة للعراقيين.

حصول ام محمد على مقعد في البرلمان

في الصباح الباكر من اليوم الثاني رجعت الحاجة ام محمد التي لم تحصل على مكان داخل صالة الانعاش بسبب امتلاءها بالأعضاء الراقدين الا ان أحد الاعضاء قرر الخروج دون اذن الطبيب المختص وخرج على مسؤوليته الخاصة ووقع على ذلك، دخلت الحاجة وهي تتفحص اوجه المرضى جيدا وتقول في نفسها هل سأخرج من هذا المكان يا ترى ام هذه ايامي الاخيرة في الحياة لما لقته من بعض الراقدين من تدهور صحتهم التي بانت على ملامح وجوههم.

 

الجلطة الدماغية أو الإقلاع عن التدخين لا ثالث لهما؟

بعد العلاج الذي تلقاه الحاج ابو حيدر قرر الطبيب المختص نقله الى مدينة الصدر الطبية في ماحفظة النجف الاشرف ( 60 كم غرب مدينة الديوانية) لزرع جهاز تنظيم دقات القلب له ،الا ان الطبيب المختص حذر الحاج في حال استمر في التدخين سيصاب بجلطة دماغية بعد اجراء العملية، وخيره بين الإقلاع عن التدخين او الإصابة بجلطة دماغية… والحاج كالعادة قد وعد الطبيب بعدم التدخين كما وعد قبله الكثير من الاطباء سابقا.

نقل ابو حيدر الى مستشفى النجف بسيارة الاسعاف بعد اليوم الثالث الذي قضاه في ردة الانعاش في الديوانية، وصل المستشفى وعقارب الساعة تشير الى السابعة والنصف صباحا، قبل موعد الدوام الرسمي وأجريت له الفحوصات مجددا وعلى اثرها أجريت له العملية ونجحت وفي نهاية المطاف قد اقلع هذه المرة فعلا أبو حيدر عن التدخين./ انتهى